في فضل العزلة ولزوم الرجل بيته
45434565445
في حوار جميل أجراه الأديب فاروق شوشة مع المفكر الكبير زكي نجيب محمود، سأله عن صلته بالناس، وكيف يتعرف على صدى ما يكتبه؟ فأجاب محمود بأن صلته الوحيدة مع العالم هي عبر البريد الذي يأتيه، وما عدا ذلك فإنه منعزل في بيته، يقول: «أنا قليل الخروج من البيت جداً، حتى لقد تمضي شهور لا أخرج مطلقاً، استمتع بالقراءة والموسيقى ولا أشعر بالملل».
تذكرت هذه القصة مع تداعيات وباء كورونا الجديد، والتوجيهات العالمية بترك التجمعات، والبقاء في البيت، وعدم الخروج إلا للضرورة. هذه الأجواء بذاتها تذكر بحال عدد من المثقفين والشعراء ممن فضلوا العزلة والانفراد، والابتعاد عن «وباء الناس» -حسب وصفهم- فخلطة البشر مضيعة للوقت، وللجهد، مرهقة للذات، أما في هذه الأيام أصبحت الخلطة مصدراً للخطر الفيروسي منك أو عليك.
أما الفيلسوف الألماني شوبنهاور، ففي كتابه «فن العيش الحكيم» يرى أن المرء لا يكون مطابقاً لذاته إلّا إذا كان بمفرده. لذلك من يكره العزلة هو كاره للحرية، كما يقول: «لا نكون أحراراً إلا في عزلتنا». ويضيف شوبنهاور: «كل اختلاط بالناس يلازمه الإكراه لزوم الظل لصاحبه، ويفرض على المخالط تقديم تضحيات وتنازلات باهظة بمقاييس الميالين بطبعهم إلى الانفراد والعزلة، والمشمئزين من المخالطة».
وفي التراث العربي اشتهر فن الكتابة في أدب العزلة، والاختلاء بالذات، وأصبح سمة ترافق مؤلفات الفقهاء الزهاد، والمتصوفة الفلاسفة، واشتهر من الشعراء أبو العلاء المعري رهين المحبسين، الذي سمي بذلك لأنه كان حبيس العمى، وحبيس بيته، حيث التزم مسكنه ولم يخرج منه لسنوات طوال حتى وافته المنية، كما اعتزل أبو حامد الغزالي الناس لسنوات، أثرت فيه تلك العزلة، راجع أفكاره كثيراً، وكتب عن قصة تحولاته وشكه ومراجعاته، وقص رحلته في «المنقذ من الضلال» حتى أصبح رائد الشك المنهجي الأول.
وفي كتابه «إحياء علوم الدين» يفرد الغزالي فصلاً عن آداب العزلة، وفوائدها، ومنها: «الخلاص من شر الناس، فإنهم يؤذونك مرة بالغيبة، ومرة بسوء الظن والتهمة بالاقتراحات والأطماع الكاذبة التي يعسر الوفاء بها، وتارة بالنميمة أو الكذب..».
وكان أبو نصر الفارابي يؤثر العزلة لكي يتأمل ويتفكر، يحب الهدوء والخلوة. يقول عنه ابن خلكان: «إنه يقضي معظم أوقاته في البساتين، حيث يؤلف بحوثه». وكان ينشد قائلاً:
لما رَأَيْت الزَّمَان نكساً
وَلَيْسَ فِي الصُّحْبَة انْتِفَاع
كل رئيسٍ بِهِ ملالٌ
وكل رأسٍ بِهِ صداع
لَزِمت بَيْتِي وصنت عرضا ** بِهِ من الْعِزَّة امْتنَاع
وكتب كثير من المحدثين والفقهاء أبواباً في فضل العزلة، منهم هناد بن السّري في كتابه «الزهد»، باب: العزلة ولزوم الرجل بيته، وعقد البيهقي في «الزهد الكبير» فصلاً في العزلة والخمول، وكتب أبوبكر الآجري في «التفرد والعزلة»، وصنف أبو سليمان الخطابي البستي كتاب «العزلة»، ولأبي علي الحسن البغدادي كتاب بعنوان «الرسالة المغنية في السكوت ولزوم البيت»، ولمحمد بن الوزير «الأمر بالعزلة آخر الزمان»، وصنف الحافظ ابن أبي الدنيا كتاباً بعنوان «العزلة والانفراد»، وفي مطلعه يقول: حدثنا عبدالله بن مبارك.. قال عقبة بن عامر: قلت يا رسول الله: ما النجاة؟ قال: «املك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك». نقلا عن عكاظ
لا يوجد تعليقات